Senin, 15 November 2010

رسالة الطير - حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه

ذكر العنقاء

اجتمعت أصناف الطيور على اختلاف أنواعها وتباين طباعها، وزعمت أنه لا بد لها من ملك. واتفقوا على أنه لا يصلح لهذا الشأن إلا العنقاء. وقد وجودا الخبر عن استيطانها في مواطن الغرب، وتقررها في بعض الجزائر. فجمعتهم داعية الشوق وهمّة الطلب، فصمموا العزم على النهوض إليها، والاستظلال بظلها، والمثول بفِنائها، والاستسعاد بخدمتها. فتناشدوا وقالوا:

قوموا إلى الدار من ليلى نحييها *** نعم، ونسألهم عن بعض أهليها

وإذا الأشواق الكامنة قد برزت من كمين القلوب، وزعمت بلسان الطلب، بأي نواحي الأرض أبغي وصالكم وأنتم ملوك ما لمقصدكم نحو.

وإذا هم بمنادي الغيب ينادي من وراء الحُجُب: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة:195). لازموا أماكنكم ولا تفارقوا مساكنكم، فإنكم إن فارقتم أوطانكم، ضاعفتم أشجانكم، فدونكم والتعرض للبلاء والتحلل بالفناء:

إن السلامة من سعدى وجارتها *** أن لا تحل على حال بواديها

فلما سمعوا نداء التعذر من جناب الجبروت ما ازدادوا إلا شوقا وقلقا وتحيّرا وأرقا، وقالوا من عند آخرهم:

ولو داواك كل طبيب إنس *** بغير كلام ليلى ما شفاكا

وزعموا:

إن المحب الذي لا شيء يُقنعه *** أو يستقر ومن يهوى به الدار

ثم نادى لهم الحنين، ودب فيهم الجنون، فلم يتلعثموا في الطلب، اهتزازا منهم إلى بلوغ الأرب. فقيل لهم: بين أيديكم المهامة الفيح والجبال الشاهقة والبحار المغرقة وأماكن القر ومساكن الحر. فيوشك أن تعجزوا دون بلوغ الأمنية فتخترمكم المنيّة، فالأحرى بكم مساكنة أوكار الأوطار قبل أن يستدرجكم الطمع. وإذا هم لا يصغون إلى هذا القول، ولا يبالون، بل رحلوا وهم يقولون:

فريدٌ عن الخلان في كل بلدة *** إذا عظم المطلوب قلّ المُساعد

فامتطى كل منهم مطية الهمّة، قد ألجمها بلجام الشوق، وقومها بقوام العشق، وهو يقول:

انظر إلى ناقتي في ساحة الوادي *** شديدة بالسّرى من تحت ميّاد

إذا اشتكت من كلال البين أوعدها *** روح القدوم فتحيا عند ميعاد

لها بوجهك نور تستضيء به *** وفي نوالك من أعقابها حادي

فرحلوا من محجة الاختبار، فاستدرجهم بحد الاضطرار، فهلك من كان من بلاد الحر في بلاد البرد. ومات من كان في بلاد البرد في بلاد الحر. وتصرفت فيهم الصواعق. وتحكمت عليهم العواصف، حتى خلصت منهم شرذمة قليلة إلى جزيرة الملك، ونزلوا بفنائه، واستظلوا بجنابه. والتمسوا من يخبر عنهم الملك وهو في أمنع حصن من حمى عزه. فأُخبر بهم فتقدم بعض سكان الحضرة يسألهم ما الذي حملهم على الحضور؟ فقالوا: حضرنا ليكون مليكنا. فقيل لهم: أتعبتم أنفسكم. فنحن الملك شئتم أم أبيتم، جئتم أو ذهبتم. لا حاجة بنا إليكم. فلما أحسوا بالاستغناء والتعذر أيسوا وخجلوا وخابت ظنونهم. فتعطلوا، فلما شملتهم الحيرة، وبهرتهم العزة، قالوا: لا سبيل إلى الرجوع فقد تخاذلت القوى، وأضعفنا الجوى. فليتنا تركنا في هذه الجزيرة لنموت عن آخرنا. وأنشئوا يقولون هذه الأبيات:

أسكان رامة هل من قِرى *** فقد دفع الليل ضيفا قنوعا

كفاه من الزاد أن تمهدوا *** له نظرة وكلاما وسيعا


هذا وقد شملهم الداء، وأشرفوا على الفناء، ولجئوا إلى الدعاء:

ثملٌ نشاوى بكأس الغرام *** فكل غدا لأخيه رضيعا

فلما عمهم اليأس وضاقت بهم الأنفاس، تداركتهم أنفاس الإيناس، وقيل لهم: هيهات فلا سبيل إلى اليأس، فلا ييأس من روح الله إلا القوم الخاسرون. فإذا كان كمال الغنى يوجب التعزز والرد، فجمال الكرم أوجب السماحة والقبول. فبعد أن عرفتم مقداركم في العجز عنه معرفة قدرنا، فحقيق بنا إيواؤكن. فهو دار الكرم ومنزل النعم. فإنه يطلب المساكين الذين رحلوا عن مساكنة الحسبان، ولولاه لما قال سيد الكل وسابقهم: (أحيني مسكينا). ومن استشعر عدم استحقاقه، فحقيق بالملك العنقاء أن يتخذه قرينا. فلما استأنسوا بعد أن استيأسوا، وانتعشوا بعد أن تعبسوا، ووثقوا بفيض الكرم واطمأنوا إلى درور النعم، سألوا عن رفقائهم، فقالوا: ما الخبر عن أقوام قطعت بهم المهامة والأودية. أمطلول دماؤهم أم لهم دية؟ فقيل: هيهات هيهات: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (النساء:100). اجتبتهم أيادي الاجتباء بعد أن أبادتهم سطوة الابتلاء: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ) (البقرة:154). فالذين غرقوا في لجج البحار، ولم يصلوا إلى الدار ولا إلى الديار، بل التقمتهم لهوات التيار. قيل: هيهات (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ) (آل عمران: 169). فالذي جاء بهم وأماتهم أحياهم. والذي وكّل بكم داعية الشوق حتى استقللتم العناء والهلاك في أريحية الطلب، دعاهم وحملهم وأدناهم وقربهم. فهم حجب العزة وأستار القدرة: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (القمر: 55). قالوا: فهل لنا إلى مشاهدتهم من سبيل؟ قيل: لا، فإنكم في حجاب العزة وأستار البشرية، وأسر الأجل، وقيده. فإذا قضيتم أوطاركم وفارقتم أوكاركم، فعند ذلك تزاورتم وتلاقيتم. قالوا: والذين قعد بهم اللؤم والعجز فلم يخرجوا؟ قيل: هيهات (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) (التوبة: 46). ولو أردناهم لدعوناهم، ولكن كرهناهم فطردناهم. أنتم بأنفسكم جئتم أم نحن دعوناكم؟ أنتم اشتقتم أم نحن شوقناكم؟ نحن أقلقناكم فحملناكم وحملناهم في البر والبحر، فلما سمعوا ذلك استأنسوا بكمال العناية وضمان الكفاية، كمُل اهتزازهم وتم وثوقهم، فاطمأنوا واستقبلوا حقائق اليقين بدقائق التمكين، وفارقوا بدوام الطمأنينة إمكان التلوين، ولتعلمن نبأه بعد حين.

فصل

أترى هل كان بين الراجع إلى تلك الجزيرة وبين المبتديء فرق؟ إنما قال: جئنا ملكنا من كان مبتدئا، أما من كان راجعا إلى عيشه الأصلي (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي) (الفجر: 27، 28). فرجع لسماع النداء كيف يقال له جئت؟ فيقول: لم دعيت. لا بل فيقول: لم حملت إلى تلك البلاد وهي بلاد قربة؟ والجواب على قدر السؤال، والسؤال على قدر التفقه، والهموم بقدر الهِمم.

فصل

من يرتاع لمثل هذه النكت، فليجدد العهد بطور الطيورية، وأريحية الروحاني، فكلام الطيور لا يفهمه إلا من هو من الطيور. وتجديد العهد بملازمة الوضوء، ومراقبة أوقات الصلاة، وخلوة ساعة للذكر. فهو تجديد العهد الحلو في غفلة لا بد من أحد الطريقين. (فاذكروني أذكركم) أو (نسوا الله فنسيهم). فمن سلك سبيل الذكر (أنا جليس من ذكرني). ومن سلك النسيان (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (الزخرف: 36). وابن آدم في كل نفّس مصحح أحد هاتين النسبتين. ولا بد يتلوه يوم القيامة أحد السيماءين. أما يعرف المجرمون بسيماهم أو الصالحون بسيماهم في وجوههم من أثر السجود؟! أنقذك الله بالتوفيق، وهداك إلى التحقيق، وطوى لك الطريق، إنه بذلك حقيق.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله أجمعين ... آمين.

تمت

Tidak ada komentar:

Posting Komentar